لمحات عن الحفاظ على البيئة في عهد الدولة العثمانية
- مركز الأخبـار- AA
- الاثنين , 28 ديسمبر 2020 6:51 ص بتوقيت جرينتش
- AA
يعد مبدأ المحافظة على البيئة والعناية بنظافتها مظهرًا مصاحبًا لكل حضارة سليمة الأسس، ولذا كانت الحضارة الإسلامية تولي اهتمامًا كبيرًا للمحافظة على البيئة.
ويظهر ذلك من خلال نصوص دينية حثت على التشجير ومواجهة التصحر، وتجنب قضاء الحاجة في طرقات ومجالس الناس، وعدم الإسراف في استخدام المياه العامة.
كا رغّبت النصوص في إزالة القاذورات وإماطة الأذى، بل وجاءت بحفظ التوازن البيئي بالنهي عن استهداف جماعات الحشرات والاكتفاء بما يهدد منها سلامة الناس لا إبادة جنسها.
ولما كانت الدولة العثمانية قد أُسست على مركزية الدين الإسلامي، فقد اصطبغت في كثير من حقبها التاريخية بصبغة الحرص على تطبيق التعاليم الإسلامية، والتي هي في أصلها يُحصل بها الناس منافع الدنيا.
ولذا كان العثمانيون في فترات القوة أشد تمسكا بالمحافظة على البيئة والاعتناء بنظافتها كمظهر حضاري ينبثق من تعاليم الإسلام.
لم تكن تلك العناية بالبيئة مجرد سلوك جماهيري نابع من الوازع الديني والقيمي فحسب، بل تعدى ذلك إلى إطار تقنين شؤون البيئة وسن قوانين للمحافظة عليها.
وكما كانت هناك مناصب وظيفية في الدولة العثمانية تتعلق بشؤون الأمن الداخلي، كانت هناك وظائف أيضا للمحافظة على البيئة وتأمين النظافة المادية والمعنوية في المدن والقرى والمراكز والأطراف.
وكان يطلق على هؤلاء اسم "صوباشي"، إذا كانوا يمارسون أعمالهم في القرى، أما في المدن والمراكز الكبيرة، فكانوا يسمون "شهر صوباشي"، ويعملون تحت إمرة القاضي.
وفي كتابه "الدولة العثمانية المجهولة"، يذكر المؤرخ أحمد آق كوندز أن من أظهر دلائل اهتمام الدولة العثمانية بنظافة البيئة والمحافظة عليها هو أن أكثر من نصف الموظفين الذين عينهم عثمان بن أرطغرل، مؤسس الدولة العثمانية، كانوا من تلك الفئة التي تُعنى بشؤون النظافة والعناية بالبيئة.
والأهم من ذلك، أنه كان هناك موظفون لوضع لوائح قانونية تتضمن الأسس التي يجب تطبيقها في هذا الشأن، ومن ذلك ما كان في عهد السلطان العثماني الشهير، سليمان القانوني، حيث صدرت عام 1539م اللائحة القانونية الأولى للمحافظة على البيئة.
ونصت المادتان الأولى والثانية منها على ضرورة المحافظة على نظافة الأماكن المحيطة بالمساكن والدكاكين، وإلزام الأهالي بتنظيف مناطقهم، فيما نصت المادتان الثالثة والرابعة على ضرورة الاهتمام بالمحلات العامة، كالحمامات والفنادق والنزل.
ونصت المادتان السادسة والسابعة على قيام البقالين وأصحاب المهن الأخرى بنقل الفضلات والمياه غير النظيفة الناتجة عن أعمالهم إلى خارج المدينة، بينما نصت المادة العاشرة على عدم السماح لأصحاب العربات بإيقاف عرباتهم أمام المنازل والدكاكين.
ونقلت لنا وثائق المواد القانونية الواردة في لائحة المحظورات بخصوص نظافة البيئة، والتي تم إرسالها في عهد السلطان سليمان القانوني إلى شعبة مدينة "أدرنة"، وسُلمت إلى قسم "جوبلك صوباشيسي" أو الموظفين المسؤولين عن نظافة المدينة.
وكان من هذه المواد القانونية:
"الأوامر السلطانية حول شوارع وأزقة وأسواق مدينة أدرنة:
1- عدم رمي الأزبال والأوساخ أمام البيوت والدكاكين من الآن فصاعدا، ورفع ما رُمي منها.
2- على موظف صوباشي إبداء غاية الاهتمام بنظافة الأسواق ومحلات السكن، وإجبار أصحاب البيوت والمحلات على رفع الأوساخ القريبة من بيوتهم ومحلاتهم، وفي حالة قول أحدهم "إنني لم أرم هذه الأوساخ"، يتم البحث عن الفاعل، وإجباره على تنظيف المكان.
3- إذا كانت الطرق المؤدية إلى الحمامات مسدودة بالأوساخ، يُجبر أصحاب أقرب البيوت على رفعها، فإن أنكروا أنهم أصحاب هذه الأوساخ، يُفتش عن الفاعل ويُجبر على تنظيف المكان.
4- يُمنع القائمون على غسل الملابس والقائمون على فصد الدم من سكب المياه القذرة والدماء على الطرق العامة، بل يجب نقلها إلى الخلوات.
5- يُمنع الطباخون وبائعو رؤوس الأغنام المشوية والسرّاجون من رمي الأعشاب وفضلات الحيوانات على الطرق، ويجبرون على نقلها إلى الخلوات.
6- يُمنع أصحاب العربات من تقديم العلف لحيواناتهم في دكاكين الحدادين ومُنعّلي الخيول، وعليهم علفها مسبقا في الخان، وإن اضطروا لعلفها في هذه الدكاكين، فعليهم تنظيف المكان، وإلقاء الأوساخ في أماكن خالية خارج المدينة. انتهى".
وإذا كان السلطان سليمان قد وضع قانونا لحماية البيئة، فإنه ينبغي العلم بأن اهتمام الدول المعاصرة بتلك المسألة ووضع أطر قانونية لها، لم يكن معروفا قبل القرن العشرين، وفقا لباحثين.
وفي كتابه "الدولة العثمانية تاريخ وحضارة"، تحدث المؤرخ يلماز أوزتان عن قرار بإلغاء أعداد زائدة من محلات الزهور فاقت الحاجة في القرن السادس عشر الميلادي. ولعل هذا القرار هو من صور المحافظة على البيئة، التي كانت ضمن اهتمامات السلاطين العثمانيين.
ومن مظاهر اهتمام العثمانيين بالبيئة والحفاظ على مواردها، عنايتهم الشديدة بتنظيف أسبلة الماء التي انتشرت في الولايات العثمانية.
وذكر د. محمود الحسيني، في كتابه "الأسبلة العثمانية بمدينة القاهرة"، أن عملية تنظيفها كانت يرصد لها مبالغ مالية كبيرة يتم إنفاقها على الأدوات والآلات اللازمة لذلك.
وكانت عملية التنظيف تتم حسب دورتين وفق أسلوبين مختلفين: دورة موسمية خاصة بالصهريج وغالبا ما تكون سنوية، ودورة يومية خاصة بحجرة التسبيل وأدواتها.
لا يوجد تعليقات