قراءة معاصرة.. جواز إخراج زكاة الأبدان نقدًا

كتب/ أيوب إضواو

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،

كثر الكلام بين مجيز ومانع لأداء زكاة الفطر من النقود، وذلك أن جمهور الفقهاء يقولون بإخراجها من قوت البلد، ومنهم من ذهب إلى التخيير بين البُر أو التمر أو الشعير أو الزبيب، لاختلافهم في مفهوم الحديث "كنا نُخرج زكاة الفطر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعًا من طعام، أو صاعا من شعير، أو صاعا من أقط، أو صاعا من تمر" إلا أن أبا حنيفة وعمر بن عبد العزيز وحسن البصري والبخاري وغيرهم أجازوا إخراجها نقدًا، وذهب قوم إلى اشتراط الإجزاء في النقد المصلحة الراجحة، منهم أشهب وابن تيمية وبعض الحنابلة والمالكية.

فالمسألة التي يجب التنبيه إليها هو أن ما يعتبر قوت البلد (شعير أو بر أو تمر) في الزمن النبوي هو بمثابة أعيان مستعملة في حياة الناس ومعاشهم، فكل منها كان عينا رائجا (marketable)، رائجة أعني بها مطلوبة في السوق مرغوبا في شرائها على الدوام من قبل الناس، وكانت تصلح لتكون وسيطاً لتداول السلع الأخرى، فهي بمثابة النقد في زماننا. 

فلو افترضنا أن زيدًا كان يملك شعيرًا أو تمرًا، فنزل به إلى السوق فهو بمثابة النقد يحمله، فيشتري به ما يشاء، لأن الشعير أو التمر سلعة رائجة، وأعطية ذلك بإقبال الناس عليها في الزمن النبوي كقوت من الأقوات، لكن ذلك الرواج مخصص بظرفه الزماني والمكاني، في زماننا لا يتصور في بلد من البلدان أن تذهب بأحد الأصناف المذكورة فتشتري بها عقارا أو سيارة أو غير ذلك، (الربا والمخرج منه، عدنان محمد فقيه. بتصرف).

وهذا الرواج هو الذي عبر عنه الإمام الشافعي بلفظ الجواز في قوله : "وكذلك الحنطة تجوز بالحجاز التي بها سنت السنن جواز الدنانير والدراهم...لأنها ثمن بالحجاز (الأم، 2/98)

كما قال عن الذرة أيضا إنها ثمن باليمن من أجل كونها رائجة فيه، فهو يتحدث عن نقدية البر (الحنطة) في الحجاز نقدية تضاهي الفلوس في سواها.

ويضاف إلى الرواج قابلية الادخار وكذا المثلية وهي قابلية التقسيم إلى أجزاء متشابهة ومتماثلة، فهذه الصفات من رواج ومثلية وقابلية الادخار جعلتها تقوم بدور النقد في العهد النبوي، أو ما يطلق عليه (النقد السلعي).

أما استدلال من يقول أن النقود كانت رائجة في العصر النبوي رواجا كثيرا ولم يأمر صلى الله عليه وسلم أن تخرج منها زكاة الأبدان، فهذا غير صحيح يقول ابن القيم "وعامة أهل الأرض -في العصر النبوي- ليس عندهم دراهم ولا دنانير، لا سيما أهل العمود والبوادي، وإنما يتناقلون الطعام بالطعام". (الأعلام، 2/106)

فالنشاط الاقتصادي لم يزدهر في الأمة إلا بعد فتح خيبر، فكانت بمثابة تحول اقتصادي في تاريخ المسلمين، من حيث توفر الأموال، والكفاية المعيشية، وتنظيم السوق...وضبط المعاملات المالية وفيها كان تحريم ربا البيوع، يقول الشيخ أبو زهرة "إن فتح خيبر كان فتحا جديدا بالنسبة للعلاقات المالية التي تجري في ظلها التبادل المالي، فكانت فيها شرعية المزارعة والمساقاة ولم تكن تجري كثيرا في يثرب" (خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، 3/821)

و لنضرب مثال على هذا الأمر، حديث خيار رد المصراة مع صاع من تمر :

عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ولا تصروا الغنم، ومن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحتلبها، إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعا من تمر" متفق عليه.

والحديث اختلف فيه الفقهاء اختلافا كثيرا بين إجراء الحكم على ظاهره وبين تأويله ينظر ذلك في مضانه، يقول النووي ملخصا حجة من لم يعمل بظاهر النص : "وقال أبو حنيفة وطائفة من أهل العراق وبعض المالكية ومالك في رواية عنه  : يردها -أي الشاة- ولا يرد صاعا من تمر؛ لأن الأصل أنه إذا أتلف شيئا لغيره رد مثله، وإلا فقيمته، وأما جنس آخر من العروض فخلاف الأصول" (المنهاج، 10/167 وما بعدها).

قال الغزالي : "وإنما قدر بالتمر لا من جنس النقد؛ لفقد النقد غالبًا، ولأن التمر يشارك اللبن في المالية، وكونه قوتا وهو قريب منه، إذ يؤكل معه في بلادهم" (الوسيط، 3/124 وما بعدها).

فما يمكن استنتاجه من هذا المثال أنه :

• يصح به -التمر- تقدير العروض؛ لأنه عبارة عن نقد من النقود فلا إشكال من هذه الزاوية؛

• كونه نقدا يكون حكم النبي صلى الله عليه بالصاع حكما تقديرا للثمن يراعي معطيات السوق بطريق الواقع.

ففي وقتنا المعاصر لو أخرجها المكلف نقدا لا نقول له أتيت ببدع من الفعل، إذ المصلحة تقتضي دفعها نقدًا فالمحتاج هو في غنى عن الطعام -أي قوت البلد- في الغالب، بل له مآرب أخرى من كسوة الأطفال، واحتياجات العيد وغير ذلك، وواقعنا المعاصر نرى فيه أن المحتاج إذا أخذها من قوت البلد يبيعها في الحين بدراهم بخس معدودة أقل من قيمتها السوقية، إذ مراده الأول هو النقد، ولا نقول أن فيه مصلحة للمعطي فقط بل الأمر مشترك بينها في ذلك.

فلا نحجر واسعا ما دام فئة تخرجها طعاما فالسنة النبوية لا زال معمول بها ولله الحمد،  وكل يؤديها بما يراه مناسب له وللفقير.

والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيوب إضواو

باحث دكتوراه - اقتصاد إسلامي

 

شارك الخبر

أخبار ذات صلة

تعليقات

لا يوجد تعليقات