من الحياة..
لقد اعتدنا أن نلتقط من الحياة مشاهد تكون عظة وعبرة لنا ولأحبابنا، ولكن القرآن يأتي بذلك على نحو مُعْجِز، إذ يصل الآخرة بالحياة الدنيا في كثير من أحداثها التي نعيشها، وذلك ليبين لنا حقيقة بعض القيم التي قد ندِّعي أحيانا أننا نُعلي منها، ونتشدق بالتمسك بها في دنيانا، لكنه يكشف لنا زيف هذه الدعوى في الآخرة.
وفرق بيننا نحن البشر حين نستمد من الحياة العظة والعبرة وبين القرآن الكريم، فلا أصدق من القرآن في عظته وعبرته، وقد سبر أغوار النفس البشرية وأخرج مكنونها في حياتنا نحن البشر.
فهذا مشهد من مشاهد الآخرة، لكنه موصول بحياتنا الدنيا، طرفه عندنا، والطرف الآخر، في يوم القيامة، يوم الصَّاخَّة وكما ذكر القرآن، إنه مشهد حيرة الخلق، الذين يبحثون عما يُثقِّلون به موازينهم، كي ينجوا من عذاب الله، إنه مشهد غريب، مرعب،رهيب، ففي ذلك اليوم من أيام الآخرة، يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، كما يقول القرآن (يوم يفرّ المرء من أخيه وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه) عبس-34-37.
إنه مشهد من مشاهد الآخرة، لكنه من الحياة، من حياتنا نحن بني البشر، ومن تلك العلاقات التي بيننا وبخاصة الأقرباء ذوو الأرحام، مشهد من الحياة التي كنا نعيشها، ولكنه يكشف حقيقة علاقاتنا ببعضنا البعض، والتي فيها نظهر على غير حقيقتنا، نعم، لقد عشنا ذلك المشهد في الحياة من قبل، لكن على غير ما كان يدعونا إليه رب العالمين في كتابه، ويحضنا عليه، تظهر حقيقة تلك العلاقة في المشهد الذي يصوره القرآن بفرار المرء (أولا) من أخيه.
لماذا يفرّ المرء من أخيه أولا؟ ألم يكن هو ذلك الكيان الذي شاركه رحم أمه، وخرجا منه من قبل؟ ألم يشاركه حياته في عش أبيه؟ ألم يشاركه حضن أمه الذي كان ملاذا لهما سويا؟ ألم يكن هو وأخوه محور حياة الأب والأم، يجهدان كلاهما لإطعامها، ورعايتهما؟ ثم بعد أن شبَّ لم يعد له إلا مجاورة أخيه ولعبه معه؟وشجاره معه وحنوه عليه؟ ثم شق كل منهما طريقه في الحياة إما حافظا للودّ لأخيه، أو قاصرا لودّه على نفسه؟ يأتي القرآن ليشكف عن حقيقة علاقة الأخوة من خلال ذلك المشهد الفاصل، الذي أتت فيه مُقدَّمة على مرتبة أصحاب الفضل (أمه وأبيه) ساعة الضيق وساعة الحاجة، طبعا هذا مع ذلك الصنف من الناس الذي نسي حقيقتها، بعد أن كان يصل الأمر ببعضهم إلى أن يجعل الأخوة عصبية عمياء. أهكذا يكون التنكر لذلك الرصيد الذي رعاه الله في كيان واحد في رحم الأم، وباركه حتى أنعم عليه بالحياة، ثم التنصل منه بالفرار؟
للأسف تغيب تلك الحقيقة عن الكثيرين من الأشِقَّاء لكثرة تقلبهم فيها، إذ قد يعيشون على عكسها متخاصمين، مُتَعادين،متنابذين، لكنهم سيُضطر كل منهم أن يلجأ لأخيه في ذلك اليوم.لقد استعادت الآخرة في ذلك المشهد من الحياة تلك الحقيقة، حقيقة العلاقة بين الأخ وأخيه، وما ينبغي أن تكون عليه من القوة والمتانة، وما أجملها عندما تكون لله تعالى في ظل منهج الإسلام، ينعمون فيه بحقوقها وآدابها.
ثم يأتي الفرار في المرتبة (الثانية) من أمه وأبيه، يفرّ منهما، لكن في مرتبة بعد (أخيه) لماذا؟ ألم يقوما بما أمكنهما من عناية وتربية حتى صار راشدا يعتمد على نفسه؟ ثم عندما واتته الفرصة انفصل عنهما إلى حضن زوجته، ودفء أولاده، فأين هما منه الآن؟ لماذا أمه وأبوه؟ ألم يكفه ما قاما به معه- وقد كفياه-فلماذا يتنكر لهما الآن؟ نعم.. لقد اعتاد على ظلهما -وياليته نفع- ولقد اعتاد على عطائهما المستمر الذي لا ينقطع -ولقد انقطع في الدنيا بكبرهما أو بموتهما- فما نفعُ معروفهما فيه الآن؟ أليس هما الأولى بالمساعدة منه في هذا اليوم العسير؟ لا، إنه مضطر للذهاب بعيدا عنهما، وقد كان على غير ذلك في دنياه يأخذ وفقط، ولا يراهما إلا بقرة حلوبا لا تنضب أبدا، ولذلك استحضر القرآن منظر ذلك الصنف من الأبناء في ذلك اليوم، فتراه على عكس ما كان في الحياة من قبل هو وأمثاله مع أبويهما، لا يرونهما إلا مصدرا للأخذ وحسب، فأنّى يستجيب لهما بالعطاء في تلك الحال!
ويأتي في المرتبة الأخيرة (الثالثة) الزوجة والأبناء.. وهما الطرفان اللذان قضى حياته كلها يعمل ويكدّ من أجلهما، ويبذل لهما، لا يرى سواهما. فيستعيد القرآن ذلك الحال من الحياة ثانيةً يوم القيامة، ليعيد تلك الحال على صاحبها، تلك التي كان عليها مع زوجه وأولاده، فقد كان في دنياه يسعى بكل عافيته ليأخذ من كل مكان -أيًا كان- ليجلب لهم كرامةً، وعزًا وجاهًا ومالاً من أجلهم جميعا، وها قد جاء دور ردّ الجميل، ولكنهم يأتون في مؤخرة الطالبين منه، لمعزتهم التي أفردهم بها دون سواهم، فقد كانوا كذلك في الحياة، لم يفكر في أن يطلب منهم هم أولا، إذ لم يكن يعدُّهم لذلك، ولا ربّاهم عليه، فكانوا من الطبيعي أن يكونوا هم في مؤخرة من يلجؤون إليه الآن في الآخرة، بعد أن كانوا في المقدمة لديه في الدنيا دون غيرهم، من أخيه وأمه وأبيه، فكيف يأتون إليه الآن في هذا الوقت العصيب؟ لقد سبق وقد بذل حياته لهم، فأين ذهب عاقبة ما كان يبذله لهم الآن ليأتوا طالبين منه؟ إذن فالتنكر والفرار هو سيد الموقف الآن. هكذا القرآن في ذلك المشهد، يكشف الحقيقة للناس، حقيقة ما كانوا يظنون أنه صواب في حياتهم الدنيا، وقد كانوا مخدوعين به.
طبعا هذا غير الصنف الكريم الذين أعدَّ أبناءه لله تعالى، ولِما أمر به ودعا له نبيه صلى الله عليه وسلم، فمنهم من سيبحث عن إخوانه الذين التقوا معه في الدنيا على قيم النبل والرقي الإنساني، وافترقوا عليها لا ليفرّ منهم، وإنما ليستظل معهم بظل الرحمن، ومنهم من سيبحث عن والديه لا ليفرّ منهما، ولكن ليُلبِسما تاج الوقار، لا يطلب منهما شيئا، بل يكافئهما، إنه لا يبحث عن أحد ليأخذ منه، فقد كان في حياته يعيش للعطاء والإحسان، وهكذا كانت حياته مع أخيه، وأمه أبيه، وصاحبته وبنيه.
فيا أيها الأخ المؤمن الكريم.. من الحياة اغتنم أخوتك، لأخيك،والتي وهبك الله إياها، وعش حقيقة الأخوة لله مع أخيك، فلا تعكر صفوها بمطامعك، أو بأهوائك، واغتنم أباك وأمك فلا يفارقان حياتك إلا وهما راضيان عنك، ينعمان بظل جناحي الذل لهما من الرحمة، واعمل لتكافئهما في ذلك اليوم، لا أن تبحث عنهما كي يعطيانك وقد بذلا نفسيهما لك حتى الموت، واعمل لزوجك وأبنائك كي يكونوا ذخر الآخرة لك كما كانوا زينة الحياة الدنيا من قبل، فلا تغرنك تلك الزينة، واعمل على ألا يتركوك في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، وإنما ليلبسوك تاج الوقار بحق، فتكون من أصحاب الوجوه المُسْفِرة، الضاحكة المستبشرة.
ربنا يبارك في حضرتك مقال رائع في الحقيقة