مفهوم الأمن.. ما بعد الأزمة !

مفهوم الأمن.. بين مطالب الشعوب وهشاشة النظام العالمي


‏أظهرت الأزمتان الأحدث في التاريخ المعاصر للإنسانية، أزمة جائحة كورونا وأزمة الغزو الروسي لأوكرانيا، هشاشة الاقتصاد العالمي والمنظومات الاجتماعية المرتبطة به.

 وبدا واضحًا أن الاقتصاد العالمي في شقيه الحقيقي والمالي هش بصورة غير متوقعة، مما قد يترتب عليه أن المنظومات السياسية والاجتماعية والأمنية للدول قد تصبح هشة معرضة للسقوط في أي وقت، أو عند مواجهة أي أزمة جديدة قادمة فعالم اليوم ليس صلبًا كما كنا نظنه أو نتخيل إحسان الظن فيه.

لقد أصبحت التغيرات والأحداث المحلية والإقليمية والدولية تخطو بتسارع غير منضبط، مما يجعل الاقتصاد بكل مكوناته ومؤسساته ومنهجياته مليئًا بالتهديدات الداخلية والخارجية مما جعلنا في مواجهة مفهوم جديد يسمى بعالم VUCA.

ومفهوم  VUCA WORLD والذي أصبح شائعًا في أدبيات بعض الباحثين والخبراء الاستراتيجيين مشتق من أربع مفردات تشخص عالم اليوم وتصفه بعمق ودلالات مباشرة، ويمكن بيانها كما يلي، أولاً: VOLATILITY أي التقلب وهو ما يعبر عن سرعة التغيير في مجريات الأحداث والتي أصبحت تحدث بمعدلات أسرع من ذي قبل.، فيغيب عن العالم الاستقرار والهدوء، وثانيًا:  UNCERTAINTأي الشيء المجهول وغير المتوقع.

 فالعالم اليوم يحمل في طياته ما لم يخطر على عقل البشر سواء ما تعلق بالعلوم والسياسة والاجتماع والاقتصاد والمخاطر والأزمات والأوبئة والأمراض، وثالثًا: COMPLEXITY أي التعقيد والتداخل الذي يصف الأحداث العالمية بحيث تتأثر ببعضها البعض وتتأثر بالعديد من الظروف والأحداث الأخرى بشكل متشابك غير قابل للتفكيك في الأحداث الرئيسية والجوهرية فيه، ورابعًا: AMBIGUITY أي الغموض، فأحداث عالم اليوم تتسم بالضبابية وعدم الوضوح في كثير من الأوقات والأحداث والدلالات والمآلات، فقد أصبح عالمًا متقلبًا ومتغيرًا، غامضًا، معقدًا وأحداثه متداخلة وغير متوقعة.

إننا في عيشنا تحت تأثيرات جائحة كورونا والتي عطلت الإنتاج والعمل والانتقال لفترات مؤثرة في اقتصاديات ومجتمعات عالم اليوم، وما تبعها من الغزو الروسي لأوكرانيا جعلنا نعيش تحت وقع أزمات متتالية مركبة مولدة لأزمات جديدة متعاقبة، وأصبحنا لا نعلم طبيعة الأزمات القادمة لا من حيث أحجامها ولا توقيت بداياتها أو نهاياتها أو بؤرتها أو دوائر الاتساع المفترضة لها، أو حجم الضرر العميق المترتب عليها، إلا أننا اليوم نقف باضطراب حقيقي أمام أزمتين متولدتين عن أزمتي كورونا والغزو الروسي لأوكرانيا وهما أزمتا الطاقة والغذاء.

وقد كشفت الأحداث حجم الورطة التي يعيشها عالم اليوم، وحجم التشابك والارتباط، بحيث أصبحت أوروبا لا تملك الدفء في مستقبلها القريب وأصبح العالم كله في هاجس خطر قادم عنوانه الأمن الغذائي، والذي يبشر باضطراب عالمي في أسعار المواد الغذائية، بل وفجوة بين الاحتياج والمعروض من السلع الأساسية كالقمح والأعلاف والزيوت والسكر والأرز تثمر قريبًا عن عجز حقيقي في الوفرة.

إن اضطراب الوقت وعنصر المفاجأة وفداحة التهديد المترتب على أزمتي الغذاء والطاقة لن يجعل القادة السياسيين بحالة استجابة مريحة – باستثناء الدول التي تنبهت مبكرًا ووفرت بدائل محلية لتوفير الغذاء بسلعه الاستراتيجية إضافة لبدائل الطاقة- وهوما قد يترتب عليه ثورات مجتمعية بعناوين مطلبية، فالجوع والدفء لن يملك أحد مقايضتهما لا بالأمن ولا بالديموقراطية،.

فحاجات الإنسان الأساسية ستكشف عجز الدول والكينونات السياسية وهشاشة استعدادها في توفير سبب بقائها في مواجهة الشعوب والاستمرار معها إن مفاهيم الأمن التقليدي ستغيب قريبًا وتسقط في مواجهة الاستحقاق القادم والمترتب على أزمتي الطاقة والغذاء، والتي سيتعقد معها المشهد والأثر إذا ما استمر الغزو الروسي لأوكرانيا وامتد أجله، وتأخرت حالة التعافي بعد امتدادات جائحة كورونا والتي لم يستفق منها العالم بعد.

إن الأمن الذي رسخته النظم الحاكمة في الدول الناشئة والذي يستند للأجهزة الشرطية والاستخبارية، - والذي غيب التشاركية والإنتاج في كل نطاقاته وتوزيع المسؤوليات والثروات وأعاق ترسيخ قواعد الحكم التي تقوم على أن السلطة للأمة، وأن الحاكم وكيل مؤقت بأجر عن الشعب لإدارة شؤونه- سيصبح في مواجهة استحقاقات عالم  VUCA وما سيترتب على أزمتي كورونا والغزو الروسي لأوكرانيا.

فمطالب الشعوب ستتحول نحو الحاجات الأساسية وهو ما ستضطرب بعض النظم عن تلبيته فيما ستعجز أخرى عن الوفاء به، ولن تفلح عندها العصا في تحقيق المعالجات أو كف يد الشعوب عن المطالبة به، ما سبق من إشارة للدول الناشئة لن يكون ساكنًا في جغرافيتها حصرًا، إذ قد يستطيل في أمواجه وأثره ليصل إلى أوروبا وأمريكا وكيانات العالم الأول، فأزمة الطاقة والغذاء لن تحبسها الجغرافيا.

تحتاج المخاطر القادمة والمتعلقة بتحديات الأمن الغذائي والطاقة  إلى مشاريع إنتاجية وطنية في كل دولة وبحسب الإمكانات المتاحة، و ‏بدون اقتراض أو شراكات أجنبية ،وأيضا بدون تأجيل أو مماطلة  فالدول الناشئة مثقلة بالديون، ومكبلة بالاستعمار الاقتصادي وما عادت تطيق التأجيل.

إن الوصول لقواعد جديدة في إدارة العالم تؤسس لعالم أكثر عدالة، وأقل نزاعات، وأكثر تشاركية في توزيع الإنتاج العالمي من الطاقة والغذاء بعدالة وإنسانية، سيؤمن للعالم فرصًا مستقبلية للبقاء والاستدامة وهو ما دعا له قادة عالميون مثل الأمير الأردني الحسن بن طلال والرئيس التركي أردوغان والماليزي مهاتير محمد، فعالم اليوم عالم هش قلق لا يتحمل الأزمات القاسية، وإذا ما حدثت فإن التدافع الصعب القاسي سيكون خيارًا جبريًا يهدد الجميع، ويجعل من معادلة البقاء مسألة تحتاج للتفكر والبحث عن واقعية الإجابات وفداحة المآلات. 

----

بقلم المحامي الدكتور محمد فخري صويلح
باحث سياسي واقتصادي أردني

Ahsant.tc@gmail.com

شارك الخبر

أخبار ذات صلة

تعليقات

لا يوجد تعليقات